كفالة الأيتام من أعظم القربات، التي يتقرب بها الناس من الله سبحانه وتعالى، وكافل اليتيم يحاول دائماً أن يحرص على تمام أجر عمله، وصلاح اليتيم الذي يتكفل به، ومن هنا كثير ما يتعرض العاملون في حقل تربية الأيتام إلى أسئلة كثيرة في تربية الأيتام، ومن أكثر هذا الأسئلة هو حكم تأديب اليتيم ، قد تعرضُ سلوكيّات أو أقوال من اليتيم، توجبُ تأديبه عليها؟ فهل تجوزمعاقبته أو تأديبه؟ ولو أدّى تأديبه إلى بكائه ؟
نحاول في هذا الكلمات الاجابة على هذا التساؤل من الناحية التربوية والشرعية.
سبب إشكالية هذا السؤال ورود الآيات والأحاديث التي تحضّ على العناية باليتيم والإحسان إليه، قال الله تعالى: (فَأَمّا الْيَتِيم فَلَا تقهر) والتي قد يفهم من ظاهرها عدم جواز المساس باليتيم اطلاقاً
بل إن هناك بعض الأثار الموضوعة – المكذوبة- التي قد تصل إلى درجة منع تربية اليتيم أصلاً…
مثال ذلك:
(إِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا بَكَى اهْتَزَّ لِبُكَائِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: يَا مَلَائِكَتِي، مَنْ ذَا الَّذِي أَبْكَى هَذَا الْيَتِيمَ الَّذِي غَيَّبْتُ أَبَاهُ فِي التُّرَابِ؟)
قال الخطيب: حديث منكر جداً اللآلئ المصنوعة للأحاديث الموضوعة:ج2ص:71
والجواب على هذه الإشكاليّة واجب وضرورة، حتّى تستقيم كفالة الأيتام وتثمر الأهداف الكبرى التي يطمح إليها الإسلام.
لا شكّ أنّ خير من يمثّل الشرع ويبلّغه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ربّى الأيتام، فكيف كانت تربيته لهم؟ وكيف كان يؤدّبهم؟
فهذا عمر بن أبي سلمة يحدّثنا عن تربية رسول الله له حيث قال: كُنْتُ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» صحيح مسلم (2022)
والصحابيّ الجليل أنس بن مالك أيضاً عاش في كنف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
قَالَ أنس: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الْمَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: ” فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ ” صحيح مسلم
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب – وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم- قال: فخرجت حتّى أمرّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه، وهو يضحك، فقال : يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. أخرجه أبو داود.
وهذا أدب نبويّ في التعامل مع الأيتام، فعمر بن أبي سلمة كان يتيماً، وكذلك أنس بن مالك رضي الله عنهم، حيث نبّه رسول الله الصحابة الكرام وأدّبهم وربّاهم بأحسن الوسائل التربويّة، فهو لم يترك أفعالهم بلا توجيه أو تنبيه، ولكن في المقابل لم يهمل الجوانب النفسيّة أو الكرامة الوجوديّة للإنسان.
وقد روى البخاريّ في صحيح الأدب المفرد عن شميسة العتكيّة قالت: ذكر أدب اليتيم عند عائشة رضي الله عنها فقالت: ( إنّي لأضرب اليتيم حتّى ينبسط) أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدّب ويضرب ضرباً خفيفاً.
وأخرج البخاريّ في صحيح الأدب المفرد أيضاً عن أسماء بن عبيد قال: قلت لابن سيرين: عندي يتيم قال ( اصنع به ما تصنع بولدك، اضربه ما تضرب ولدك).
وهذه الآثار تفيد أيضاً بأنّه يجب علينا أن نربّي الأيتام، ونأخذ على أيديهم عند الخطأ، ولا ينبغي علينا التهاون في ذلك، و ممّا لا شكّ فيه أنّ الأولاد عموماً وليس فقط الأيتام، هم بحاجة إلى التربية الرشيدة، التي تقوم على الترغيب و الترهيب، والثواب والعقاب، وهي فطرة طبيعيّة لدى جميع الأطفال، والأيتام مثلهم مثل الأطفال كذلك، وليس هناك حرج شرعيّ ولا تربوي في قضيّة التأديب، ولكن لها ضوابط لا بدّ منها:
- معرفة الفعل الخاطئ.
أن يكون الخطأ معروفاً من قبَلِ اليتيم وأمثاله من الأطفال أيضاً، فلا ينبغي العقاب والتأديب على خطأ لا يعرف الأطفال أنّه خطأ، ولم يبيَّن لهم سببُ كونه خطأ، وهذا الأمر مهمّ جداً تربويّاً، قبل الناحية الشرعيّة، فجهل الطفل سبب كون هذا الفعل خطأ أو صواباً، قد يدفعه إلى اقترافه مرّة أخرى.
- الاقتناع بخطأ الفعل:
فالسبب إن لم يكن مقنعاً للطفل، لن يكون رادعاً وناهياً له عن إتيانه مرّة أخرى، فلا بدّ لنا من أن نبيّن الفعل الخاطئ وسبب الخطأ، وإقناع الطفل بذلك، حتّى لا يعود إليه مرّة أخرى، وما اليتيم سوى طفل من الأطفال.
- عدم المزاجيّة في التأديب:
أن يكون التأديب وفق نظام لا مزاجيّة فيه، بمعنى أن يكون إتيان الفعل الخاطئ سبب التأديب عليه دائماً، وليس بحالات وحالات أخرى مسموح القيام به، لاعتبارات لدى الأسرة الحاضنة.
فإنّ عقليّة الطفل لا تحبّ النظام، ولا يقوى على التمييز بين الوقت الذي يُسمح له فيه القيام بهذا الفعل، والوقت الذي لا يجوز له القيام به.
- العدل في التأديب.
- أن يوقعَ الكافلُ العقوبةَ نفسَها على الفاعل، سواء كان المخطئ هو الطفل اليتيم، أو كان ابنه الحقيقيّ، فليس من العدل في شيء أن يقيم العقوبة على اليتيم إذا أخطأ، ويغضّ الطرف عن ابنهِ إن هو أخطأ الخطأ نفسه، والواجب يفرض على الأب أن يربّيهما على حدّ سواء، لأنّ الطفل إذا لاحظ التمييز في الجزاء، فسيُقْدِم على ارتكاب الخطأ عامداً، وإن جلب له فعلُهُ ضرراً.
- الالتزام بالشرع عند التأديب:
بمعنى أن يكون التأديب على أمر منهيّ عنه شرعاً أو عرفاً اجتماعيّاً أو تربويّاً يقرّه الشرع ويثبته، لا أن نوقع العقوبة على الطفل إن هو أتى بأمر مُباح أو مطلوب القيام به شرعاً، فعندئذ يكون التأديب حراماً، ويكون المؤدّب ممّن يصدّون عن ذكر الله والعياذ بالله.
- عدم مجاوزة الحدّ بالتأديب:
عندما يستحقّ الطفل أو اليتيم التأديب فلا بدّ من تأديبه، ولكن بالوسائل المشروعة في التأديب، وليس بالوسائل المحرّمة مثل: ( السبّ والضرب والسخريّة) وما إلى ذلك…
لابدّ من مراعاة الوسائل الصحيحة التي تدرّس اليوم في علم التربية، حتّى تعطي هذه الوسائل ثمارها، ولا تؤدّي إلى نتائج عكسيّة.
أخيراً:
كثيراً ما نرى اليوم الأطفال يعودون لارتكاب أفعال غير مرغوب فيها، على الرغم من معاقبتهم عليها مراراً وتكراراً فما السبب؟
العامل الأهمّ في ذلك من وجهة نظري هو الخطأ في أساليب التربية ووسائلها، فهذا يؤدّي في كثير من الأحيان إلى ردّة فعل لدى الأولاد، فلا هم ينتهون عن الخطأ، ولا الآباء والأمّهات يغيّرون وسائل تربيتهم وأساليبها!